مدينة غزة في سيارة “إسعاف”

الإثنين, 27 مارس 2017 11:04 ص

عشرات الأفلام الوثائقية ومئات الريبورتاجات التلفزيونية حاولت رصد وتسجيل وقائع القصف الوحشي الإسرائيلي لمدينة غزة صيف عام 2014، لكن تجربة المخرج الفلسطيني محمد الجبالي اختلفت عنها، بنوع الوسيط المنقول عبره الحدث، وكان هذه المرة: سيارة إسعاف!

بمصاحبة كاميرته اليومية لمسعفيها ونقلها تفاصيل عملهم لإنقاذ أرواح الجرحى والمصابين جراء القصف الهمجي، تمكن من توثيق ما تعرضت له مدينته خلال أكثر من 50 يوماً راح ضحيتها، كما ورد في مفتتح فيلمه “إسعاف” المعروض على قناة التلفزيون السويدية، مئات القتلى والجرحى وتدمير أكثر من 18 ألف منزل إلى جانب تشريد نحو نصف مليون شخص من منازلهم.

ينقل المخرج بصوته انطباعاته الشخصية عن وجوده في المدينة المنكوبة، التي ولد فيها يوم بدء انتفاضتها الأولى وكبر فيها خلال الانتفاضة الثانية، في حين تولت كاميرته تسجيل ما يجري أمام عدساتها من قتل ودمار وتهجير لأهلها. يحكي كيف وضعته الصدفة داخل سيارة إسعاف، فقبل الولوج إليها، كانت قد أوكلت له مهمة تصوير عمليات جراحية في مستشفى محلي، وفي أول يوم عمل له فيها اندلعت الحرب فاقترح الانضمام، كمصور إلى فريق عمل إحدى سيارات الإسعاف.

ومع أنه ابن مدينة ما انكفأت تعيش ويلات حروب، لكنها المرة الأولى التي يرى الموت فيها أمامه على الطبيعة. اندهش للطريقة التي يعمل فيها طاقم الإسعاف وحماستهم لإنقاذ أرواح الناس من دون خوف من الاقتراب والدخول إلى المناطق السكنية المقصوفة. طبيعة عمل طاقمها وصلته المباشرة بعمل المستشفيات ساعد على تسجيل فظاعات ما يتعرض له الفلسطينيون جراء القصف الهمجي الإسرائيلي بالصواريخ والمدافع والطائرات وعدم التمييز بين شيخ أو طفل.

مشاهد انتشال الجثث من تحت الأنقاض (وأحياناً يجدون أحياء بينها)، أجساد الجرحى النازفة والممزقة، وعويل الأمهات كانت تتداخل كلها مع أصوات صفارات الإسعاف وهرولة المسعفين وهم يحاولون الوصول إليهم ونقلهم إلى المستشفيات بأقصى سرعة.

حالة التوتر والخوف الشديد جراء القصف تعكس الجو العام للمدينة والظروف التي يعمل بها رجال كرسوا حياتهم لمعاندة الموت.

وعلى رغم اهتمام فيلم “إسعاف” بنقل المشهد العام للحرب فإن الجانب الشخصي لم يغب عن متنه. اقترابه من ضابط الإسعاف الصامت أبو مرزوق ومرافقته طيلة أيام الحرب كشفت عن شخصية صبورة مضحية لا تميل إلى الظهور ولا تتوانى عن تقديم المساعدة والخوض في الخطر من دون تردد.

رجل أفعاله تكسبه احترام وثقة العاملين معه، يكبر في عيونهم بقوة مثاله وفي اللحظة التي ستتعرض سيارته للقصف ويصاب بجروح في رأسه ستتجسد قيمته كفلسطيني معطاء، موضع حب يوازي حبه لمهنته الخطيرة.

لا يتوقف الوثائقي كثيراً عند المسعفين وعلاقته بهم، لكنه سيحاول من خلال عملهم الجمع بين الذاتي والعام، لأنه شخصياً وببساطة لا ينفصل عن المكان/غزة، وستتجلى شدة ارتباطه بها لحظة تعرض منطقة الشجاعية لقصف وحشي مشاهدها ستوجعه كثيراً. فهو ابن المنطقة، ترعرع فيها، ودرس في مدارسها وأولى صداقته منها.

من معايشة كاميرته لأيام الإبادة الجماعية سيتوصل إلى وجود دائرة شر لن تتوقف، فبعد كل هدنة موقتة تندلع النيران ويموت بشر في منازلهم، تحول آلامها الحياة في لمح البصر إلى وجع دائم لتجسيده حرص المجالي على تصوير اللحظات القليلة التي كان يتنفس فيها الناس الصعداء، فيهرولون إلى بيوتهم لتفقدها وتفقد من بقي حياً فيها، فبعدها ستسمع ثانية أصوات الصواريخ وإطلاق النار وصفارات سيارات الإسعاف، وهي تشق طريقها نحو الموت!

غيَّرت الحرب والقصف العشوائي وظيفة سيارة الإسعاف في غزة، فما عادت وسيلة لنقل الجرحى إلى المستشفيات فحسب، بل أصبحت سيارات لنقل المهجرين. وبعد كل قصف شديد يهرع الناس إلى الشوارع تاركين كل شيء وراءهم حتى يصلوا إلى مكان أقل خطراً، يعمل سائقو الإسعاف ومسعفيها على نقلهم داخلها، والمفارقة أنه غالباً ما يتم إيصالهم إلى المستشفيات فلا مكان آمن في غزة من الموت حتى بيوت الله، تتعرض للقصف.

وثق المجالي لحظة قصف الجيش الإسرائيلي لإحدى الكنائس وهروب الناس القاطنين قربها إلى الشوارع مذعورين لا يعرفون إلى أين يمضون. يتعب الناس من الحروب وأهل غزة ليسوا استثناءً. يعلن، بعد إعلان التهدئة وزيادة الأمل في وقف الحرب، بعض سكانها عن رغبتهم في وضع نهاية لها فقد ملوا منها ومن ما تأتي به، ويريدون العيش بسلام، ومحمد مجالي مثلهم يحلم، بعد أن سجل يوميات الحرب بكاميرته وهو داخل سيارة إسعاف؛ أن يجد نفسه يوماً يعيش في مدينة آمنة، لكن الواقع يقول شيئاً آخر تماماً.

قيس قاسم