الإبل في غزّة… تراث وثروة للأسر البدويّة

الإثنين, 23 مايو 2016 09:52 ص

لا تزال العائلات البدويّة في قطاع غزّة، تحافظ على تربية الإبل كمظهر من مظاهر التراث البدويّ، وكمصدر للدخل وكسب المال، فضلاً عن استخدام لبن الناقة كدواء، على الرغم من المصاعب التي تعيق ازدهار تربية الإبل في غزّة، مثل ندرة المراعي الخضراء والزحف السكّانيّ المستمرّ على الأراضي الزراعيّة.

قبل القرن الثامن عشر الميلاديّ، لم يكن هناك أيّ وجود لقبائل البدو في قطاع غزّة، إلّا أنّ مطلع هذا القرن شهد الاستيطان الأوّل للبدو في القطاع، حيث رحلت قبيلة بني عامر البدويّة، مصطحبة معها كمّاً هائلاً من الإبل، من صحراء النقب في جنوب الأراضيّ الفلسطينيّة المحتلّة في عام 1948، نتيجة صراعات قبليّة، وسكنت الأطراف الشرقيّة لقطاع غزّة في المنطقة الممتدّة من وادي غزّة (وسط) إلى رفح (جنوباً)، وفقاً لقول الخبير التاريخيّ ناصر اليافاوي لموقع “المونيتور”.

مع إطلالته كلّ صباح، يمتطي خالد المصدّر (31 عاماً) الذي يسكن قرية المصدر وسط قطاع غزّة ظهر جمله ليمضي بحثاً عن المراعي الخضراء لإطعامه، فهذا الجمل بالنسبة إليه أهمّ ما يملك لما يمثّله من قيمة تراثيّة يصعب التخلّي عنها.

يقول المصدر الذي التقاه “المونيتور” خلال انشغاله برعي جمله: “منذ تفتّحت عيناي على هذه الدنيا، والجمل يعدّ جزءاً من حياتي، فإضافة إلى أنّه وسيلة تنقّلي، فهو أيضاً مصدر غذائي، كما أنّ الأجيال البدويّة نشأت على شرب لبن الناقة وتربّت عليه”.

ويقطع المصدر نحو أربعة كيلومترات يوميّاً بحثاً عن الحشائش والصبّار لتغذية جمله بسبب نقص المراعي الخضراء، وضيق مساحة قطاع غزّة وهي 365 كيلومتراً مربع، كما يجمع كمّاً آخر من الحشائش ويضعها على ظهر جمله ليصطحبها معه إلى المنزل، لإطعام ناقته (أنثى الجمل) التي يحافظ على عدم إرهاقها في التنقّل هذه الفترة، كونها حاملاً في شهرها التاسع، حيث تحمل لمدّة 12 شهراً أو أكثر بقليل.

ويقول المصدر إنّ عائلته تنتظر بفارغ الصبر وضع ناقته المولود الجديد من أجل بيعه وتحقيق الربح، فالمولود الذي يبلغ نحو 6 أشهر يبلغ ثمنه نحو ألف دولار، مشيراً إلى أنّ المشترين هم عادة من الطبقة الغنيّة الذين يرغبون بابتياعه لإعداد الولائم عليه، كون لحمه ألذّ كثيراً من لحوم الإبل المسنّة التي لا يوجد من يرغب في شرائها.
ويبلغ متوسّط عمر الجمل 25 إلى30 عاماً.

خلال موسم الصيف، تستغلّ الأسر البدويّة الإبل لتحقيق ربح ماديّ في مجال الترفيه، حيث تنتشر عشرات الإبل على شاطئ بحر غزّة ليسمح أصحابها للمستجمّين والمصطافين بامتطائها لدقائق عدّة، مقابل مبلغ زهيد من المال لا يتجاوز النصف دولار.

يقطع محمّد أبو شمّاس (23 عاماً) الذي ينحدر من قبيلة السواركة البدويّة، كلّ يوم نحو 20 كيلومتراً من مدينة دير البلح وسط قطاع غزّة حيث يقيم، للوصول إلى شاطئ بحر غزّة من أجل كسب بعض المال.
يقول أبو شمّاس لـ”المونيتور”: “معظم الناس في غزّة ليسوا من البدو، لذلك لا يفوّتون فرصة امتطاء ظهر الإبل للحصول على الترفيه مقابل القليل من المال، ومع قضاء نحو خمس ساعات في هذا العمل، أستطيع جمع نحو 100 شيكل يومياً (25 دولاراً) بسهولة”.

وتعدّ الإبل أيضاً مظهراً مهمّاً من مظاهر إحياء حفلات الزفاف والمناسبات الوطنيّة الفلسطينيّة، ويقول أبو شمّاس: “الكثير من الناس يرغبون في إضفاء بعض المظاهر البدويّة على حفلات زفافهم، حيث يستأجرون الإبل المدرّبة لساعات عدّة لأداء بعض حركات الرقص أمام العامّة، مقابل مبلغ من المال يقدّر بنحو 70 شيكلاً (19 دولاراً)”.
تعتبر الإبل ثروة البدويّ العربيّ، ويقول أبو شمّاس في هذا الإطار: “كان البدو قديماً يقدّمون الإبل كمهر عند الزواج من إحدى فتيات البدو، كما كانت تقدّم كفدية لإنهاء النزاع بين عائلتين نظراً لقيمتها العالية لديهم”.

وثمّة طرق إضافيّة يمكن أن تدرّ ربحاً على الأسر البدويّة من خلال الإبل، حيث يقبل الناس على شراء لبن الناقة كدواء لأمراض عدّة، فتقول خديجة أبو بيض (45 عاماً) التي قابلتها مراسلة “المونيتور”، وهي تحلّب ناقتها أمام أحد المنازل في مدينة غزّة: “إنّ الكثير من الناس يطلبون شراء لبن الناقة كوصفة للعلاج من مرض السكرّي وقرحة المعدة، حسب ما يخبرهم به الأطبّاء”.

وأوضحت أنّ الناقة يمكن أن تدرّ يوميّاً أربعة لترات فقط من اللبن، على خلاف الأبقار التي يمكن أن تدرّ 40 لتراً من اللبن يوميّاً، الأمر الذي يجعل ثمن لبن الناقة مرتفعاً، حيث يبلغ سعر اللتر الواحد منه نحو ستّة دولارات، فيما لا يزيد سعر لتر لبن الأبقار والأغنام عن دولار واحد فقط.

بالعودة إلى اليافاوي، يقول: “إنّ ارتباط الإبل بالعرب يعود إلى أبعاد دينيّة ترتبط بقصّة ناقة النبّي صالح عليه السلام الذي بعثه الله لهداية قوم ثمود في منطقة تقع بين مدينتي تبوك والمدينة المنوّرة في السعوديّة في عام 3000 ق. م، وكان أولئك القوم يعبدون الأصنام، ولكن النبي صالح دعاهم لعبادة الله وحده، فلم يجيبوه وطلبوا منه معجزةً برهاناً على صدق حديثه، بأن يخرج لهم من صخرة كانت في قريتهم ناقة، فدعا صالح الله لتحقيق ذلك، وقد فعل، فآمن به فريق منهم، واستمر فريق آخر بتكذيبه، وقاموا بقتل الناقة فأهلكهم الله بهزة عنيفة من أسفلهم، وأنجى الله من آمن بصالح من الهلاك، لذلك فإنّ الإبل تعدّ مقدّسة تاريخيّاً لدى العرب”.

وبيّن أنّه ومنذ ذلك الوقت والقبائل العربيّة تتباهى بامتلاك أكبر عدد من الإبل، وكان العرب قديماً يتغزّلون بالإبل ويمدحونها في أشعارهم، كما أنّ القرآن الكريم اتّخذ من الإبل نموذجاً لعظمة خلق الله، بقول الله تعالى “أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت”، سورة الغاشية الآية 17.

وبحسب مدير دائرة الإنتاج الحيوانيّ في وزارة الزراعة في غزّة طاهر أبو حمد، فإنّ عدد الإبل في غزّة يبلغ نحو 800 رأساً، وقال لـ”المونيتور”: “العائلات البدويّة تحافظ على استمرار نسل الإبل من خلال تربيتها، الأمر الذي لا يجعل هناك حاجة لاستيرادها من الخارج”.

وكما أيّ حيوان آخر، أوضح أبو حمد أنّ الإبل تصاب بالأمراض وأهمّها الجرب الناجم عن الطفيليّات، مشيراً إلى أنّ علاجها متوافر لدى وزارته ويتمّ من خلال حقن الإبل المصابة بمستحضر “الأيفومك” الخاصّ بمقاومة الطفيليّات الداخليّة، إضافة إلى رشّ جلدها من الخارج بالمبيدات الحشريّة.

وتشتكي الأسر البدويّة في قطاع غزّة من عدم توافر مراعٍ خاصّة للإبل، واستمرار الزحف السكّانيّ على الأراضي الزراعيّة الخضراء، ممّا يزيد من صعوبة رعي الإبل، الأمر الذي يهدّد وجودها كمظهر من مظاهر التراث الفلسطينيّ وكمصدر رزق لهم.

غزة- رشا أبو جلال